”الناس من دون تراث لا قيمة لهم”
تحدد هذه الإفادة التي أدلى بها ناصر اليوسف ذات لقاء صحافي سابق المسار الذي يمكن أن تجترحه تجربته التشكيلية وما يتلبث وراءها من مخزون رؤيوي. والحق أن ناصر اليوسف قد ظل طوال الوقت مؤمناً بحيوية الفن الإسلامي والفن الشعبي وقد سيَّج كل منهما عالم طفولته: نشأةٌ في المحرق حيث خصوصية المعمار الزخرفي الجميل، واشتغال عائلي بتقصيب وتطريز البشوت، حيث يجتمع في منزل الأسرة أمهر الصُنَّاع من الخليج والجزيرة العربية، وشغف باكر التيقظ على بطولات عنترة وهجرات الهلاليين حيث يتشبع الطفل الصغير بقصص التراث ويرددها في المجالس.
هذا الاستحواذ الذي شَكل المدركات من حول ناصر ظل قوي الإشعاع والفعل في كل مراحل حياته الفنية التالية، ولا يكاد لقاء صحافي معه يخلو من إشارة احتفائية إلى هذه المظاهر التي حفَّت بخبراته الجمالية الأولى (ولعل ما يكتسي خصوصية في المغزى ضمن هذا السياق تكرار لفظة الذكريات في أسماء لوحات ناصر اليوسف: ذكريات غواص ””1 ذكريات غواص ”,”2 ذكريات غواص ”,”3 ذكريات طفولية، ذكريات الغواص).
ورّث هذا كله آثاره البعيدة على تجربة ناصر اليوسف التشكيلية على أكثر من مستوى، فقد ذهبت تقنياته وألوانه في مسارات تتلاءم مع معطيات هذه البيئة، وبرزت في حسه أهمية البناء الفني من خلال مسطح الصورة، وتعاملت تجربته مع الفراغ والحيّز في اللوحة بنحوٍ خاص وشديد المغزى. أما موضوعاته فقد عوّلت في غالب الأمر على ذاكرة بصرية طفولية ثرية المخزون، وأما رؤاه فقد بنت عالمها الدلالي من خلال نموذج توليدي ينسجم مع نظام كلاسيكي لرؤية العالم تتخلق عبره الأشكال منبثقة من شكل أولي واحد هو الأصل الذي ترتد إليه قوانين الأشياء، وهو المصدر الذي تتناغم المعاني وتنسجم من حوله.
طوال الوقت كان ناصر اليوسف واعياً بمصادر بحثه الجمالي، وقد تعززت صور الطفولة البهيجة بما كانت الذاكرة تلتقطه من مشاهد المعمار الإسلامي يوم أن كان ناصر في عداد الفنانين الجوالين يذرع القرى ويجوب المدن مع رفقته الفنية: العريض والسني والبوسطة وسوار والعريفي، جولات كهذه أكسبت اليوسف مشاهدات غنية وحباً جارفاً للبيئة وإنسانها البسيط، كما أكسبته قدرةً مباشرة على التعبير، واسترسال لافت ساعة تنفيذ اللوحة، ومهارة مميزة في منح التكوينات والألوان الفورية عفويتها النادرة، وكانت هذه الخواص هي أول الدروس المستفادة من حيوية الإسكتش وتخطيطاته السريعة.
لقد ظل تدريب ناصر اليوسف الفني الأصيل حصيلة سليقة فطرية مواتية جاءت الخبرات الفنية والقراءات والزيارات الميدانية للمعارض لتضيف إليها فيما بعد، ولكن عين الراصد للوحات اليوسف لا تكاد تخطئ، مع ذلك، تحديد المظاهر الواغلة التي تركتها هذه المعاينات والاستعدادات الأولية في مجمل التجربة، بل إن إدلاءات ناصر اليوسف نفسه حول تجربته باحتفائه الواعي بالأسلوب الذي ينميه والمصادر التي يقبس منها في الرؤية والاختيارات.
جماليات إسلامية
يمكننا فيما يختص بالإشارة إلى الخلفيات المرجعية التي نهضت عليها تجربة ناصر اليوسف أن نقرر بشيء من الاطمئنان أن قدراً كبيراً من هذه المساحة المرجعية ستستأثر به جماليات الفن الإسلامي بما عرف عنه من تحرر من قواعد الرسم الأكاديمي التي فرضها التطور الفني الأوروبي على صعيد المنظور والظل والنور والنسب والتشريح، ومن خروج على إسار الإيهام بالمكان الواقعي إلى رحاب المطلق والتجريد الزمكاني، ومن اهتمام بالروحانية العميقة الكامنة وراء هذا الوجود بدلاً من الاهتمام بالشكل الآني لعناصر هذا الوجود، وهو ما يفتح على تكثيف ترميزية التجربة وغنى عالمها بالشفرات والدلالات التي تختزل الأشياء رادة إياها إلى ما هو جوهري بنائياً فحسب.
إن جانباً من الإحالة لا بأس به يومئ إلى دور المؤثر الشعبي في خلفية ناصر اليوسف الجمالية كذلك، والحق أنه من الاعتساف أن نغالي في الفصل بين مظاهر الفن الشعبي ومظاهر الفن الإسلامي، غاية ما يمكن توصيف الفن الأول به هو أنه تنويع، يستفيد من خصوصية الثقافة المحلية في تقديم أنماط فرعية من الفن الإسلامي الأشمل، هكذا فإن طابعاً محلياً من الزخرفة سيتدخل في طبيعة المكونات التي ينتخبها ناصر اليوسف من الفن الإسلامي، وكذا أيضاً ستفعل بعض المعتقدات الشعبية المتعلقة بالحسد وشر العيون ورمزية بعض الحيوانات، إضافة إلى إيماءات توحي بقدر أو آخر من تدخل جماليات بعض الأجناس الأدبية والفنية كالموال وفنون البحر في إمداد لوحات اليوسف بثقافتها المرجعية الرافدة.
في كل الأحوال سنجد آثار هذه المؤثرات إضافة إلى بعض سمات الفن البدائي وفن الطفل، والقاعدة المشتركة بينهما وبين الفن الإسلامي والفن الشعبي كبيرة نسبياً على ما هناك من تفارقات، صميمية في لوحة ناصر اليوسف (وهذا لا يعني، طبعاً، نفي التشقيقات التي يفتحها ناصر اليوسف على مختلف مدارس الفن الأوروبي خصوصاً التكعيبة في الستينيات، والتعبيرية في كل التجربة، والتجريدية منذ منتصف الثمانينيات).
تكوينات الفنان
التكوين لدى ناصر (خصوصاً في لوحات ما قبل الغزو الإسرائيلي للبنان-1982) يقوم على أساس توزيع الكتل بشكل يحتوي الفراغ في اللوحة، وربما وجدنا لذلك جذوراً في البناء المعرفي الإسلامي الذي يجعل ما هو روحي (الأثير -غير المتعين- الفراغ) محتوىً فيما هو مادي (الكون -الجسد- الكتلة)، ستبدو لنا هذه الخصيصة التكوينية لدى ناصر أشد وضوحاً فيما لو جرت المقارنة بتكوينات ضياء العزاوي عربياً على سبيل المثال، أو على صعيد محلي بتكوينات الشيخ راشد بن خليفة آل خليفة والدور الذي يلعبه الفراغ في إبرازها داخل إطار اللوحة.
إن دور الفراغ عرضة للتضاؤل على الدوام في لوحات ناصر اليوسف السبعينية، ولو أننا تأملنا لوحة عرس الغواص (76*108 سم – زيتية – 9691)، أو لوحة ذكريات غواص-2 (14*10 سم – مائية – 9691)، أو: ذكريات غواص-3 (18*12 سم – مائية – 4791)، أو الأرض الخضراء (122*76 سم – زيتية – 7791)، أو: ذكريات طفولية (41*56 سم – اكرليك – 4791)، أو: يا معيريس (51*61 سم – اكرليك – 9791) فسنجد أن الفراغ مكافَح (بفتح الفاء) على امتداد اللوحة، والصيغ المعمارية مقتربة من الصيغ الإسلامية والشرقية التي تعمد إلى شغل الحيز من خلال تحقيق بعض التناظرات والتكرارات الهندسية لعناصر زخرفية تشتغل على أساس تأليفي يقوم على استعادة الموتيف وتكرار الثيمة البصرية المستقاة من مفردات الحياة التراثية: سلة، صندوق مبيت، دوائر زخرفية، أبواب تقليدية.. الخ، وتنفيذ ذلك من ناحية تقنية عبر هيمنة الخطوط الرأسية (بما تحيل عليه من أبعاد ميثولوجية تدور مدار السماوية والقوة والحياة الخالدة في التصور الإسلامي)، وإسقاط البعد الثالث بما يخدم التجريد ”الزمكاني” وتسطيح المشهد الذي تعرضه اللوحة، وتغييب مقصود لقوانين التشريح في رسوم الأشخاص والحيوانات مع وضع الإنسان في نقطة استقطاب بصري تتحكم في توزيع بقية العناصر التأليفية.
بدءاً من أوائل الثمانينيات، وربما مع معرض اليوسف المشترك مع إبراهيم بوسعد حول الغزو الإسرائيلي للبنان – ,1982 ستتخطى التجربة بعضاً من منطلقاتها السابقة، سيبدأ الفراغ في غزو بعض من مساحات اللوحة، وسيمارس الفنان اليوسف اقتصاداً واختزالاً ملحوظين على تطريز العالم من حول الإنسان الذي سيظل محورياً في لوحات هذه المرحلة أيضاً، ولكن مع قدر من الاغتراب والوحشة، ومع قدر من تحول الكائنات التي تسكن اللوحة من رجال ونساء وحيوانات مألوفة إلى كائنات هلامية ممسوخة وغريبة التكوين، كما في لوحة لبنان يحترق (122*60 سم – اكرليك – 2891)، أو في لوحة السقوط (58*74 سم اكرليك ومواد أخرى – 2891)، أو لوحة العائلة والقط (14*18 سم – أحبار ملونة – 3891) مثلاً، وقد يتحولون إلى أشلاء أو شظايا تتخايل فيما يشبه الأصابع أو العيون وغيرها من التجسيدات الإنسانية، كما في: صبرا وشاتيلا (29*40 سم – أحبار ملونة – 1891) أو النابالم (22*29 سم – مائية – 1891) على نحو قد يذكر (مع الوعي بمساحة المغايرة) بكائنات بيكاسو المعذبة جراء الحروب وويلات الدمار. في هذه المرحلة ستشتغل تجربة ناصر بدينامية تفرز عناصر الثبات والتحولات في قوامها الفني، ومع أننا سنعثر على أكثر من شاهد على مستويات تقنية وموضوعاتية ورؤيوية تُبين عن حجم المستجدات التي اغتنت بها التجربة إلا أننا سنلتقط كذلك مجموعة من الملامح التي تؤشر بشدة إلى مسلمات التجربة جمالياً وما لا تستطيع التفريط به.
مقارنة عابرة بتكوينات الجسد الإنساني عند إبراهيم بوسعد والتكوينات الموازية عند ناصر اليوسف في المعرض المشترك المشار إليه آنفاً، ستسفر عن مظهر من مظاهر الثبات الذي نتحدث عنه، فعلى حين تبدو تكوينات الجسد لدى بوسعد عنيفة، مفسحة للفورة والعنفوان والفتل العضلي كي ترشح من خلال اللوحة، فإن تكوينات اليوسف ظلت محتفظة للجسد بمسالمته نوعاً ما، وبالتعبيرية الرمزية الكامنة في جوانيته أكثر مما هي طافرة من عضلاته وتشريحه الفسيولوجي.
قالب الأمثولة
هذه المرحلة ستعرف أيضاً ازدهار قالب الأمثولة Allegory على صعيد الرؤية التي تشكل اللوحة، وسيكون في التركيز على الحيوان ما يمثل امتداداً لمراحل سابقة اختص ناصر اليوسف فيها القط والعصفور والديك والحمامة باهتمام تشكيلي خاص، ولكن التجربة ستعرف الآن مجازية أوسع على الصعيد الرمزي، حيث سيتمخض القط للدلالة على النوازع الشريرة التي تتلبس الرجل أحياناً (لاحظ مغزى صرف الاهتمام عن إبراز ذكورية القط في لوحة ”الانتظار” – اكرليك ومواد أخرى – ,1979 والتركيز، بالمقابل، على ملامح ذكورة القط في لوحة ”السقوط – اكرليك ومواد أخرى – 1928 مع أن اللوحتين تمثلان تعاقباً متسلسل الحلقات على مستوى حكائي رغم الفارق الزمني في سنوات التنفيذ، كما سيتمخض الديك للدلالة على الحالة السوية للرجل التي تتمازج عبرها نوازع الخير والزهو والقابلية للتطويع حتى مع العنجهية الظاهرة (والمرأة في العادة هي التي تمتلك زمام الترويض في عالم اليوسف الفني)، يمكننا التنويه هنا بالإشارات المبذولة في لوحات مثل: الديك المدلل (15*20 سم – مائية 1985)، الديك الثائر (20*28 سم – مائية – 1985) واللعبة (27*37 سم – مائية – 1985).
تتخذ الحمامة بدلالتها الرمزية العامة تشابكات دلالية ربما كانت أقرب إلى تمثيل المرأة في هذه المرحلة من تجربة ناصر اليوسف، أما العصفور الذي يحضر بكثافة في لوحات اليوسف (وربما لا تستدعي الذاكرة فناناً عربياً وظَّف العصفور بهذه الدرجة من التكرارات في اللوحة، كما يفعل ناصر، سوى اللبناني حسين ماضي)، فإن استحضاره يتحرك على مساحة من الحقول الدلالية تقترب من الأمل تارة ومن الطفولة المحتاجة إلى الرعاية تارة أخرى، ثم من الحرية طوراً إلى الألفة والأمن طوراً آخر. ولنا متعة في تأمل عصافير اليوسف عبر لوحات مثل: الله يرعى الثمر (51*61 سم – طباعة ورق مفرغ وزيت – 1970)، المرأة (51*61 سم – اكرليك – 1974)، ذكريات طفولية (41*56 سم – اكرليك – 1974)، الحماية (44*32 سم – حفر لاينو وزيت – 8791)، حماية الطائر الأخضر (51*61 سم – اكرليك – 1979)، كتابات عربية (61*76 سم – اكرليك – 1983)، امرأتان (33*28 سم – مائية – 1985)، القط والطائر (28*30 سم – مائية وأحبار وكولاج – 1985، الأمل (42*30 سم – حفر على الزنك – 1988، دعاء في رمضان (61*76 سم – اكرليك – 1989).
وبغض النظر عما يمثله الاستخدام الخاص للحيوان في مستوى البنى الدلالية لتجربة ناصر، مما سنعرض له، إلا أن كثافة اللجوء إلى الحيوان في اللوحة تنسجم مع النظام الكلاسيكي لتصور العالم بما هو عليه من غنى سميولوجي وتشابهات في العلاقات بين الدوال والأشياء وقرابات في النوازع والسلوك، واستهداف للتكامل والانسجام والمحافظة على تناغمات الحياة.
في دراسة بعنوان ”كيف يرى الفنانون الحيوانات” يتتبع كينيث كلاري تطور توظيف الحيوان في اللوحة التشكيلية ملاحظاً الحظوظ المتفاوتة التي حظى بها الحيوان كموضوع على امتداد تواريخ الفنون، وهو يشير في المجمل إلى استهلاك هذا الطراز من الموضوعات الفنية في القرون الأخيرة وعزوف الفنانين بدءاً من الانطباعية عن الحيوان كموضوع (إذ لم يرسم مانيه ولا مونيه ولا سيزان الحيوانات) لكنه يشير بالمقابل إلى تصاعد اهتمام جديد بالحيوان مع المدرسة التعبيرية التي وظفته من منطلق امتلاكه طابعاً مشابهاً للطابع البشري بشكل مرعب، مع علّوه على التعقيد البشري بفعل كونه خاضعاً لهدف واحد متسلط على كيانه. ولئن صح أن ناصر اليوسف أقرب في السمات الأسلوبية إلى الاتجاه التعبيري في الفن، وهو ما يصادق عليه ناصر اليوسف شخصياً ذات مقابلة من المقابلات، فإن هذه المقدمات جميعها كفيلة باستخلاص كم تتفارق التوظيفات الفنية للحيوان بين ناصر اليوسف وبين آخرين في الساحة التشكيلية المحلية تذهب لوحاتهم بعيداً في توظيف الحيوان (الخيول على الأخص) ولكن على أساس يخضع للمحاكاة في الأغلب أمثال هشام زباري وغير واحد من فناني آل بوسطة (مع فوارق لافتة عند عبدالكريم البوسطة لا يتسع المجال للإفاضة حولها في هذا المقام).
ينفذُ ناصر اليوسف إلى هذه الموضوعات والتصاميم عبر معالجات لونية تركِّز على الألوان الحارة وتبرز خشونة السطح وملمس اللوحة وتتقصد إظهار اتجاهات حركة الفرشاة على اللوحة أحياناً مع الاقتصاد في المزج اللوني أو استخدام القليل منه على ”الباليت” واللجوء إلى إظهار التدرجات خصوصاً في لوحات القوالب الحكائية والأمثولات على نحو يتعاضد مع المغزى الذي تستهدف اللوحة تقريره.
بنية الدلالة
لا تتركنا عوالم ناصر اليوسف نتهجى الدخول إليها طويلاً، هناك ما ينبثق، على حين غرة، رخواً وطقسياً ولكنه شديد التعليم، ما يعلم عليه هو شيء ما يتعلق بنا، نرانا فيه، حيز متوازي من أحياز الذاكرة في العادة، أو ربما حنين طفولي يحسن اليوسف أن يهبه اندلاعه كلما تقاصينا عن الدمن والمرابع.
لكم أن تستعرضوا إن شئتم الأمثلة: ”ذكريات غواص”، ”ذكريات طفولية”، ”أم البخنق”، ”من ليالي ألف ليلة وليلة”، ”حناج عجين”، ”يا معيريس!”، ”عرس الغواص”. أسماء ناصر اليوسف للوحاته خروج من ليل المعنى، خروج مما يمسي خافت الرنين (ومجبولاً على الاهتزاز مع ذلك).
لا واحدية أبعاد ها هنا، كل ما ينبض في امتداد ”الكنفس” هو تعالق من النداءات يقصد كل منا بما لا يقصد الآخر، ليس ثمة نداء ألا وهو أمة من الأمم، تناسل من سلالات الدلالة إلى ما لا نهاية، هكذا يواجهنا مشهد ناصر اليوسف الذهني محتشداً وفائضاً ومغرراً بمن لا يُعد للقراءة البصرية عدتها الشارطة.
ما إن يتناهى إلينا نداء اليوسف، ونداء تكويناته المضمخة بالينابيع والذكرى، حتى ننفتح، بغتةً، على بنية دلالية متزالقة الشفرات، دال يعوم ودلالة تنزلق كما عبر جاك لاكان ذات إلماح إلى فتنة اللغة. ليس هناك في هذا العالم، عالم اليوسف، تخوم نهائية لسلطة التأويل، صحيح أن التوليد الدلالي موئله نموذج ثابت يثوي في نفس الفنان شفيقة الإيمان: يتموضع من خلاله الإله في المركز وتدور حوله الأشياء والممارسات والخلائق، ويتكرر النموذج في صورته الأرضية بجعل الإنسان مركزاً وتشكل الكائنات والجمادات في مدارات سلطانه (ألم يخلق الله آدم على صورته؟ ألم يستخلفه في أحراش الأرض؟)، إلا أن هذا النموذج لا يتعدى كونه طرازاً تأسيسياً فحسب، يغتني باستمرار ولا يغلق الدائرة التأويلية، يقترح مديونية معنى ملأى كثيفة، ولكنه يظل متعالياً وغير مخضع لقراءة وحيدة البعد.
في العالم الذي يشكله اليوسف مناخات دلالية مشبعة بالرموز والشفرات والأمثولات والصور البهيجة، وفيه نستطيع الوقوع على تشابهات واقترانات بين مختلف العناصر والكائنات، فما يريد ناصر تمثيله في اللوحة له دائماً ما يتجاوز وجوده الموضوعي المادي ذاهباً إلى طاقات الأسطورة والسحر والمتخيل، وعن طريق التعويل على ذاكرة بصرية مكتنزة بالعديد من الأشكال والرؤى والتقابلات والحلول تنبثق اللوحة عند اليوسف مسكونة بالحيوانات والمطرزات والأدوات الشعبية والنقوش والكتابات والتعاويذ والاستعاذات… والإنسان: حراسات ورموز وأجواء ملفوفة بالسحر وعبق النموذج. أما ما يقبع في المركز فهو ذلك الجرم الذي انضوى فيه العالم الأكبر: كائن يحمل الأمانة ويُلهم الأسماء ويقبض على مقاليد التمكين اسمه: ”الإنسان”.
يحضر الإنسان كقاسم مشترك في معظم لوحات ناصر، ولو حاولنا مجرد استعراض أسماء اللوحات التي تسجِّل حضور الإنسان لطال بنا المقام، فمن أول الاسكتشات التسجيلية في بواكير التجربة مروراً بمرحلة التركيز على الغواص والفلاح، وصولاً إلى مرحلة الأشلاء والاختزالات المشيرة إلى محنة الكائن، وامتداداً إلى مرحلة الأمثولة أو الحكاية الرمزية، وانتهاء بالمرحلة الأخيرة (بعد فقد البصر) التي يتشبث إنسانها بنزوع غامض إلى ممالك الذاكرة والأنس بالزمن الهارب، يبقى الإنسان قطب عالم ناصر اليوسف ومحرك التجربة ورؤاها وأشواقها العليا.
الحرص على استحضار الشكل الإنساني في تجربة اليوسف يقترن طوال الوقت بإقامة علاقة تحويرية مع قسمات هذا الكائن، أبعاده، فسيولوجيته، خواصه المنظورية، إلا أن هذا التحوير لا يمس الجوهري فيما هو إنساني، يظل هذا الجانب بمنأى عن التلاعب بمغازيه وإحالاته، بل نستطيع أن نقول إن ناصر اليوسف يضفي بعداً تبجيلياً على هذا الجوهر، ينافح في صفه قبالة كل مناوشة أو محاولة للاستخفاف. الإنسان قيمة عليا لا تقبل المقايضة أو المزايدة على المواقع عند هذا الفنان.
سيلفتنا في غواص اليوسف (إنسان المرحلة من 65 إلى 69 من تجربة الفنان) مغالبته ضنك الحياة من حوله، ملامحه ناتئة ويطفر منها العناء، ولكنه يتصيد لحظات الفرح بضراوة.. (وفلاح المرحلة السبعينية امتداد له)، ولئن كانت النهارات إكراهاً وإخضاعاً وسخرة فإن العتمة والليل عناصر فانتستيكية درامية، يغرم بتصويرها الفنان، حيث تظل المرأة في لوحة ناصر: أليفة ووادعة، ودودة وتعويضية (لكنها لا تنزلق إلى لعبة الفتنة والغواية ولا تكاد ترتكب التبرج أو الشهوة، ينبغي أن نتذكر).
إن شخوص ناصر اليوسف نمطية ومنمذجة: الرجل الذي يغالب الأخطار ويحتاج إلى دفقة وُدّ حين يثوب إلى راحة، والمرأة الأسرارية، السكن والرحمة، المالكة لزمام إدارة اللعبة، والتي تقترف كل الوقائع على شرف اسمها وبوحي الوصول إلى مرقاتها العالية. وما التقابلات الثنائية هنا إلا تجلٍّ من تجليات قانون رؤيوي أشمل يصوغ عوالم ناصر اليوسف وتلعب فيه المراوحة بين الثنائيات لعبة تنظيم الرموز بين الحياة والموت، السر والجهر، الأرض والسماء، النور والظلمة، الخير والشر، ما يمثل أبداً هو حركة دورانية لن نسميها عوداً أبدياً (فنيتشه سيبدو مقحماً على السياق هنا بينما يقبس ناصر من استعادة تكرارية تتحاكى مع دورة تجديد الدين وسيرورة تاريخ النجاة بحسب ما يقترح منظور ديني وإيماني الصدور).
تبدأ اللوحة لدى ناصر اليوسف من التراث وتنتهي إلى ربط القيمة الأسمى للإنسان بقدرته الزاخرة على التوليد من هذا التراث، هل نستطيع أن نقول إن في هذه الأصالة الاستثنائية مكمنَ التميز الذي يصدر عنه هذا الفنان