في المحرق ولدتُ عام 1940م، وعندما أذكر المحرق تتداعى إلى ذاكرتي نبضات من الذكريات. أتذكر بيت البقشى الذي ولدت فيه بحوشه الواسع ودهليزه الطويل والباب الكبير (أبوخوخه) وحجرة على اليسار من الداخل يوجد فيها صندوق كبير تبرق مساميره المذهبة وهو موضوع على أربع أسطوانات خشبية محزوزة في الوسط وأتذكر أن تلك الأسطوانات كانت ملونة بخطوط عريضة، الأصفر والأخضر في الوسط ثم الأصفر والأحمر مرة أخرى… وإلى جانب ذلك الصندوق سلة كبيرة من الخيزران المجدول يتكرر فيه الخوص الملون بالأحمر والأخضر… هي ذكريات بعيدة… كل ما بقي منها في ذاكرتي الألوان والزخارف… وأتذكر عندما انتقلنا إلى المنامة… كنت في الثامنة من عمري… أتذكر البيت الذي سكناه في المنامة… أتذكر منه الدهليز والجليب وحجرة السعف (حجرة كان يجمع فيها السعف لاستعماله لإيقاد النار للطبخ)… أتذكر الحمام… ذلك الطائر الذي كنت ولا أزال أحبه… كنت قد أهديت زوجاً منه فتكاثر… وأتذكر أننى كنت في حرب دائمة مع القطط التي كانت تهاجمه وتأكل صغاره… ولقد رسمت الحمام كثيراً… كنت أرسمه في الكتب الدراسية وفي دفاتر الرسم وعلى سبورة الصف وعلى جدران بيوت الحي بالفحم.
تلك ذكريات أصبحت بعيدة الآن بعد أن توالت عليها السنين ولكن مازال بعضها يستعصي على النسيان… منها ذكريات الانبهار باللوحات المعلقة في القاعة الداخلية في المدرسة الابتدائية حيث كانت تتصدر القاعة لوحة المسرح للأستاذ/ سلمان الصباغ ولوحة الموناليزا للأستاذ كريم العريض وغيرها من لوحات لا أتذكرها… كنت أقف مبهوراً أمامها وأتمنى أن أرسم مثلها.
ولقد كان للأستاذ كريم العريض فضل لا يمكن أن أنساه فلقد اختارني في جمعية الرسم بالمدرسة وكنت في الصف الرابع الابتدائي وكان يحثنا دائماً على العمل والإنتاج، ويعلق ما ننتجه في الصف وفي قاعة المدرسة ما كان له أثر كبير في إذكاء رغبتنا وفي تنمية هوايتنا للرسم.
وفي المدرسة الثانوية كان هناك أستاذ آخر كان له فضل كبير علينا هو الأستاذ/ أحمد السني الذي نحتفظ له بأجل التقدير لما قدمه لنا من مساعدات مكنتنا من تلمس طريقنا في الأداء الفني.
ولقد كنت أشارك في جميع المعارض المدرسية في المدرسة الابتدائية والثانوية. ولكن أول معرض غير مدرسي شاركت فيه كان عام 1957م، في المعرض الزراعي الذي أقيم في حديقة الأندلس وكانت مشاركتي فيه بلوحة «سهرة شتوية» تمثل عائلة حول المنقلة التي يتوهج فيها الجمر وحوله غوري الشاي ودلة القهوة.
وبعد أن تخرجت من قسم المعلمين عينت مدرساً في مدرسة السلمانية الابتدائية وكان يدرّس فيها أيضاً الفنان القدير عزيز زباري ولقد استفدت منه كثيراً وهو بدوره لم يكن يبخل عليّ بأية معلومات فنية… ثم انضممت إلى أسرة هواة الفن… وبدأت المسيرة الحقيقية في حياتي الفنية… كانت لقاءاتنا يومية تقريباً في الأسرة… كريم العريض… كريم البوسطة… راشد سوار… راشد العريفي… عزيز زباري تلك اللقاءات كان لها أثر كبير في تكويننا الفني… من خلال النقاش الذي كان يدور بيننا… وكانت تغذي ذلك النقاش المقالات الفنية التي كنا نقرؤها في المجلات والصحف التي كانت تصدر في تلك الأيام مثل الفكر المعاصر والمجلة والفنون والمعرفة السورية وغيرها… وإلى جانب تلك اللقاءات كنا نخرج إلى المدن والقرى في كثير من أيام الجمع والعطلات الرسمية لنرسم من الطبيعة، ولقد رسمنا الكثير… في المقاهي والحارات الشعبية والبساتين والبحر والسفن… وأقمنا عدة معارض في المعهد الثقافي البريطاني ونادي بابكو والنوادي الأهلية من تلك الرسومات والاسكتشات التي كنا نرسمها في تجوالنا… وفي عام 1967م، أقامت شركة كريراس كرافن»أ» مسابقة لاختيار أعمال من الدول العربية وكانت البحرين إحداها وكنت سعيداً أن تكون إحدى لوحاتي من ضمن المجموعة التي اختيرت من البحرين ولقد طاف المعرض في سبع دول عربية وثلاث دول أوروبية.
وأذكر أننى عند تجوالنا قد لفتت نظري الزخارف الجصية الشعبية في واجهات بيوت قرية الدراز وفي بعض البيوت في المحرق والمنامة فكنت أسجل كل نوع من تلك الزخارف في كراستي… وكنت مهتماً بحكايات الغواصين فاختمرت لديّ فكرة أن أرسم بعض تلك الحكايات وبدأت أعد الاسكتشات والرسومات التخطيطية لها وأجمع القصص التي تحكى عن الغوص من كبار السن… وصدر ديوان الشاعر الكويتي محمد الفايز «النور من الداخل» وقرأته أحسست بأنه يجسد ما كنت أبحث عنه من معانٍ وبدأت أرسم لوحاتي السبع عن الغوص وكانت من الحجم الكبير ومرسومة بالزيت وعندما أنهيتها عرضتها في معرض أسرة فناني البحرين في الكويت عام 1969م، وكانت فرحتي كبيرة وأنا أجد الصدى الطيب للوحاتي تلك ولقد اختارت مجلة العربي الكويتية إحدى لوحاتي وهي «عرس الغواص» ونشرتها في غلافها الداخلي بالألوان في العدد 111 الصادر في ديسمبر 1969.