كتب: إبراهيم بوسعد
كنت دائم التجوال في سوق المنامة لعلّي أكتشف شيئاً ما له علاقة بالفن، وكان التنقل من المحرق إلى المنامة في فترة الستينات ليس عملية باليسيرة، حيث الباصات الخشب والانتظار ساعات طويلة ليمتلئ الباص ثم يتحرك.
ومع ذلك أحرص على التردد على المنامة وعمري لا يتجاوز الخمسة عشر عامًا. فاكتشفت ثلاث نقاط رئيسية حرصت على الدوام عليها: معرض أحمد باقر، مكتبة الطالب، ومعرض عبد الكريم العريض.
فأول لقاء مع ناصر اليوسف كان من خلال مكتبته (مكتبة الطالب) حيث كان من أوائل المهتمين باستيراد الأدوات الفنية، ومع ترددي المستمر على المكتبة، ليس لشراء الادوات الفنية بقدر ما كنت مشدودًا وبانبهار لمجموعة من التخاطيط بالأسود والأبيض، وكنت تواقًا أن أرى هذا الفنان عن قرب ولكن لم تسمح حتى الصدف بأن أراه في المكتبة ولو مرّة.
وبقيت مكتبة الطالب في الذاكرة رغم طول السنين ومازالت رسوم ناصر اليوسف محفورة في ذاكرتي ووجداني مثل صاحبها.
جمعية الفن المعاصر:
بعد تخرجي من جامعة بغداد (قسم الرسم) عام ,1978 التحقت بالجمعية ومن خلالها تعرفت عن قرب على ناصر اليوسف، فقبل الحديث عنه وعن متابعتي له ولرسومه من خلال مكتبة الطالب، استقبلني بابتسامة عريضة تنم عن طيبة وتواضع جم وذلك في معرض الجمعية الذي أقيم في فندق دلمون عام 1980 على ما أعتقد.
ومن ذلك توطدت علاقتنا وأصبح ناصر اليوسف بالنسبة لي الأب والأخ والصديق الذي كنت أستشيره في كثير من الأمور، وكنا نتحاور في شئون الفن وشجونه، ورغم فارق السن والتفكير كان متجددًا، موسوعة من الثقافة الفنية والحياتية، ووصلنا إلى مرحلة من التجانس تمخض ذلك عن معرض مشترك عن الغزو الصهيوني للبنان .1982
وهنا يجب الإشارة لإنسانية وموقف ناصر اليوسف بعد أن اعتذر الكثيرون عن المشاركة في هذا المعرض بحجة أن هذا سياسة، فأقدم بو محمود وبكل ثقة على المشاركة في هذا المعرض. حيث كانت المعارض المعتادة في تلك الفترة يغلب عليها الطابع البيئي.
مهرجان أصيلة:
صدق المثل القائل إذا أردت أن تعرف صديقك جرّبه في السفر، رغم التنقل الدائم من مطار إلى آخر من لندن إلى باريس الى الدار البيضاء وبالعكس. أتذكر جيدًا أنه هو الذي كان يتابع إجراءات التنقل والترحال لما يمتلكه من أسلوب في المعاملة وقدرة على التحدث باللغة الانجليزية. وبعد استقرارنا في أصيلة والتحاقنا بورشة الحفر نحن الأربعة ناصر اليوسف وعبد الكريم العريض وكامل بركات وابراهيم بوسعد، والتحق اسحاق خنجي بقسم السراميك. في بادئ الأمر كان اللقاء في الورشة بالنسبة لي عادياً، حيث إنني درست الحفر في جامعة بغداد وقد رأيت أدوات ومكابس الحفر سابقًا.
أما ناصر اليوسف فكان المكان بالنسبة له اكتشافاً جديداً بكل المقاييس ومن حسن الصدف كان الأستاذ المشرف على الورشة الفنان السوداني محمد عمر خليل الذي استفاد منه الجميع الكثير.
وبدأ ناصر اليوسف يتعايش مع خامات ومكابس الحفر حتى قرّر بعد عودتنا إلى البحرين أن يتكفل باستيراد المكابس والخامات الخاصة بالحفر، وفعلاً بعد عودتنا قام بإنجاز المعاملات الخاصة بالاستيراد ووصلت البحرين أربعة مكابس وقطع الزنك. ولكن لم تتوفر مادة الطلاء (البارنيش) ولقد جربنا الكثير منها ولم تكن صالحة.
وبعد عناء وبحث استنتجه ناصر اليوسف من مادة (القار الأسود) وخلطه بمادة التربنتاين ثم تسخينه على النار، وقد نجحت التجربة وقد أثمر هذا الجهد عن أول معرض لفن الحفر في البحرين عام 1982 بمبادرة وجهد شخصي من ناصر اليوسف وبمشاركة عبد الكريم العريض وكامل بركات وإبراهيم بوسعد.
وبعد المعرض كانت لنا مشاركات متقطعة في مجال الحفر، واستمر ناصر في عطائه حتى بعد أن فقد البصر. وقد فتحاً آفاق جديدة لبعض المشتغلين في هذا المجال خارج البحرين. فبهذا يعتبر ناصر اليوسف مؤسس ورائد فن الحفر في البحرين إلى جانب ريادته للفن التشكيلي الحديث.
إنسانيته:
قلت سابقًا إنه بالنسبة لي ليس صديقًا بل أباً وأخاً واقتربنا أكثر من الناحية الفنية والإنسانية. وكان يتحدث بمرارة عن أي تجاوز يحدث في مسيرة الفن التشكيلي ويمتلك بصيرة ثاقبة في طبيعة الأشخاص وأحيانًا يعاتبني ويحذرني وينصحني بأن لا أتمادى في مد يد العون باسم التشجيع واحتضان المواهب… أتذكر كلماته: ”بوسعد إذا كان اختيارك خطأً سيكونون كالخنجر المسموم في خاصرتك قبل خاصرة الفن التشكيلي، فيجب أن تختار صح”.
لقد كان قلبه على الفن وعلى مسيرته بأن لا يتعرض إلى انتكاسات على يد أناس دخيلين على الفن. لقد أسماهم (بالطفيليين). ولقد صدق رحمه الله، فقد كان اختياري خطأً في خطأ.
في مساء أحد الأيام اتصل بي متحدثًا عن مفاجأة وأصر على أن أزوره وفعلت.
أولاً: قال انظر إلى هذا المكبس لقد أحضرته من اليابان متوسط الحجم سأنجز عليه لوحات أكبر من السابقة.
ثانيًا: انظر إلى هذا الكناري وهو من الفصائل النادرة وأنوي تفريخه محليًا.
لم أندهش بذلك لأنني أعرفه شغوفاً بالطيور وأنواعها ويتتبعها علميًا، فمكتبته عامرة بالكتب الفنية والكتب العلمية المتخصصة في الطيور.
وفي مرسمه إلى جانب لوحاته مقتنيات لفنانين شباب يحرص دومًا على تشجيعهم والوقوف إلى جانبهم.
لقد سخّر حياته لأسرته وفنه ولم يكترث كثيرًا لتجارته، كان دومًا يتحدث عن الفن وهمومه، لم أسمعه قط تحدث عن امتيازات ومصالح، تعامل مع الفن كقيمة إنسانية راقية.
فنه:
يعتبر ناصر اليوسف من جيل الرواد الذين أثروا الحركة التشكيلية بمجموعة كبيرة من اللوحات، وتتميز لوحاته بالنضوج الفكري والتقني وذلك لمرجعيتها الإنسانية والثقافية الخصبة.
رغم اطلاعه الواسع على الفنون الأوروبية وتحولاتها إلا أنه ظل مخلصاً لانتمائه البيئي، فسخّر كثيراً من الموتيفات التراثية والبيئية في لوحاته.
أسرته:
كان شغوفًا بأسرته يحدثني عنهم جميعًا ابتداءً من محمود وانتهاءً بمها التي مازلت أحتفظ بصورة لها مع كتكوت بين ذراعيها. مؤكدًا على تربيتهم تربية صالحة معتمدًا على تسلحهم بالعلم والمعرفة والأخلاق الكريمة.
أتذكر كنت في زيارة له وكنا مجتمعين وسمعت من بعيد صوت يردد أسماء أبنائه كمال.. جمال.. محمود. ثوانٍ حتى دخل صاحب هذا الصوت لأفاجأ بأنها بغبغاء. وضحك الجميع من الدهشة التي بانت على وجهي.
فلم أتخيل أن أقف في يوم 17/6/2006 وجهًا لوجه لتقديم العزاء إلى الأعزاء محمود وكمال وهاني وجمال في فقيدنا وأستاذنا العزيز ناصر اليوسف.
الذي أسميت ابني ناصر تيمنًا به وبجمال عبد الناص
كنت دائم التجوال في سوق المنامة لعلّي أكتشف شيئاً ما له علاقة بالفن، وكان التنقل من المحرق إلى المنامة في فترة الستينات ليس عملية باليسيرة، حيث الباصات الخشب والانتظار ساعات طويلة ليمتلئ الباص ثم يتحرك.
ومع ذلك أحرص على التردد على المنامة وعمري لا يتجاوز الخمسة عشر عامًا. فاكتشفت ثلاث نقاط رئيسية حرصت على الدوام عليها: معرض أحمد باقر، مكتبة الطالب، ومعرض عبد الكريم العريض.
فأول لقاء مع ناصر اليوسف كان من خلال مكتبته (مكتبة الطالب) حيث كان من أوائل المهتمين باستيراد الأدوات الفنية، ومع ترددي المستمر على المكتبة، ليس لشراء الادوات الفنية بقدر ما كنت مشدودًا وبانبهار لمجموعة من التخاطيط بالأسود والأبيض، وكنت تواقًا أن أرى هذا الفنان عن قرب ولكن لم تسمح حتى الصدف بأن أراه في المكتبة ولو مرّة.
وبقيت مكتبة الطالب في الذاكرة رغم طول السنين ومازالت رسوم ناصر اليوسف محفورة في ذاكرتي ووجداني مثل صاحبها.
جمعية الفن المعاصر:
بعد تخرجي من جامعة بغداد (قسم الرسم) عام ,1978 التحقت بالجمعية ومن خلالها تعرفت عن قرب على ناصر اليوسف، فقبل الحديث عنه وعن متابعتي له ولرسومه من خلال مكتبة الطالب، استقبلني بابتسامة عريضة تنم عن طيبة وتواضع جم وذلك في معرض الجمعية الذي أقيم في فندق دلمون عام 1980 على ما أعتقد.
ومن ذلك توطدت علاقتنا وأصبح ناصر اليوسف بالنسبة لي الأب والأخ والصديق الذي كنت أستشيره في كثير من الأمور، وكنا نتحاور في شئون الفن وشجونه، ورغم فارق السن والتفكير كان متجددًا، موسوعة من الثقافة الفنية والحياتية، ووصلنا إلى مرحلة من التجانس تمخض ذلك عن معرض مشترك عن الغزو الصهيوني للبنان .1982
وهنا يجب الإشارة لإنسانية وموقف ناصر اليوسف بعد أن اعتذر الكثيرون عن المشاركة في هذا المعرض بحجة أن هذا سياسة، فأقدم بو محمود وبكل ثقة على المشاركة في هذا المعرض. حيث كانت المعارض المعتادة في تلك الفترة يغلب عليها الطابع البيئي.
مهرجان أصيلة:
صدق المثل القائل إذا أردت أن تعرف صديقك جرّبه في السفر، رغم التنقل الدائم من مطار إلى آخر من لندن إلى باريس الى الدار البيضاء وبالعكس. أتذكر جيدًا أنه هو الذي كان يتابع إجراءات التنقل والترحال لما يمتلكه من أسلوب في المعاملة وقدرة على التحدث باللغة الانجليزية. وبعد استقرارنا في أصيلة والتحاقنا بورشة الحفر نحن الأربعة ناصر اليوسف وعبد الكريم العريض وكامل بركات وابراهيم بوسعد، والتحق اسحاق خنجي بقسم السراميك. في بادئ الأمر كان اللقاء في الورشة بالنسبة لي عادياً، حيث إنني درست الحفر في جامعة بغداد وقد رأيت أدوات ومكابس الحفر سابقًا.
أما ناصر اليوسف فكان المكان بالنسبة له اكتشافاً جديداً بكل المقاييس ومن حسن الصدف كان الأستاذ المشرف على الورشة الفنان السوداني محمد عمر خليل الذي استفاد منه الجميع الكثير.
وبدأ ناصر اليوسف يتعايش مع خامات ومكابس الحفر حتى قرّر بعد عودتنا إلى البحرين أن يتكفل باستيراد المكابس والخامات الخاصة بالحفر، وفعلاً بعد عودتنا قام بإنجاز المعاملات الخاصة بالاستيراد ووصلت البحرين أربعة مكابس وقطع الزنك. ولكن لم تتوفر مادة الطلاء (البارنيش) ولقد جربنا الكثير منها ولم تكن صالحة.
وبعد عناء وبحث استنتجه ناصر اليوسف من مادة (القار الأسود) وخلطه بمادة التربنتاين ثم تسخينه على النار، وقد نجحت التجربة وقد أثمر هذا الجهد عن أول معرض لفن الحفر في البحرين عام 1982 بمبادرة وجهد شخصي من ناصر اليوسف وبمشاركة عبد الكريم العريض وكامل بركات وإبراهيم بوسعد.
وبعد المعرض كانت لنا مشاركات متقطعة في مجال الحفر، واستمر ناصر في عطائه حتى بعد أن فقد البصر. وقد فتحاً آفاق جديدة لبعض المشتغلين في هذا المجال خارج البحرين. فبهذا يعتبر ناصر اليوسف مؤسس ورائد فن الحفر في البحرين إلى جانب ريادته للفن التشكيلي الحديث.
إنسانيته:
قلت سابقًا إنه بالنسبة لي ليس صديقًا بل أباً وأخاً واقتربنا أكثر من الناحية الفنية والإنسانية. وكان يتحدث بمرارة عن أي تجاوز يحدث في مسيرة الفن التشكيلي ويمتلك بصيرة ثاقبة في طبيعة الأشخاص وأحيانًا يعاتبني ويحذرني وينصحني بأن لا أتمادى في مد يد العون باسم التشجيع واحتضان المواهب… أتذكر كلماته: ”بوسعد إذا كان اختيارك خطأً سيكونون كالخنجر المسموم في خاصرتك قبل خاصرة الفن التشكيلي، فيجب أن تختار صح”.
لقد كان قلبه على الفن وعلى مسيرته بأن لا يتعرض إلى انتكاسات على يد أناس دخيلين على الفن. لقد أسماهم (بالطفيليين). ولقد صدق رحمه الله، فقد كان اختياري خطأً في خطأ.
في مساء أحد الأيام اتصل بي متحدثًا عن مفاجأة وأصر على أن أزوره وفعلت.
أولاً: قال انظر إلى هذا المكبس لقد أحضرته من اليابان متوسط الحجم سأنجز عليه لوحات أكبر من السابقة.
ثانيًا: انظر إلى هذا الكناري وهو من الفصائل النادرة وأنوي تفريخه محليًا.
لم أندهش بذلك لأنني أعرفه شغوفاً بالطيور وأنواعها ويتتبعها علميًا، فمكتبته عامرة بالكتب الفنية والكتب العلمية المتخصصة في الطيور.
وفي مرسمه إلى جانب لوحاته مقتنيات لفنانين شباب يحرص دومًا على تشجيعهم والوقوف إلى جانبهم.
لقد سخّر حياته لأسرته وفنه ولم يكترث كثيرًا لتجارته، كان دومًا يتحدث عن الفن وهمومه، لم أسمعه قط تحدث عن امتيازات ومصالح، تعامل مع الفن كقيمة إنسانية راقية.
فنه:
يعتبر ناصر اليوسف من جيل الرواد الذين أثروا الحركة التشكيلية بمجموعة كبيرة من اللوحات، وتتميز لوحاته بالنضوج الفكري والتقني وذلك لمرجعيتها الإنسانية والثقافية الخصبة.
رغم اطلاعه الواسع على الفنون الأوروبية وتحولاتها إلا أنه ظل مخلصاً لانتمائه البيئي، فسخّر كثيراً من الموتيفات التراثية والبيئية في لوحاته.
أسرته:
كان شغوفًا بأسرته يحدثني عنهم جميعًا ابتداءً من محمود وانتهاءً بمها التي مازلت أحتفظ بصورة لها مع كتكوت بين ذراعيها. مؤكدًا على تربيتهم تربية صالحة معتمدًا على تسلحهم بالعلم والمعرفة والأخلاق الكريمة.
أتذكر كنت في زيارة له وكنا مجتمعين وسمعت من بعيد صوت يردد أسماء أبنائه كمال.. جمال.. محمود. ثوانٍ حتى دخل صاحب هذا الصوت لأفاجأ بأنها بغبغاء. وضحك الجميع من الدهشة التي بانت على وجهي.
فلم أتخيل أن أقف في يوم 17/6/2006 وجهًا لوجه لتقديم العزاء إلى الأعزاء محمود وكمال وهاني وجمال في فقيدنا وأستاذنا العزيز ناصر اليوسف.
الذي أسميت ابني ناصر تيمنًا به وبجمال عبد الناص