ناصر اليوسف
.. الفنان التشكيلي الذي حين كُفّ بصره تحدى الظلام بمزيد من نور التشكيل، وذلك في حدّ حدوثه دلالة باهرة لملكة إبداعية تحدت خذلان أهم حاسة تسعفها على الإطلاق لرؤية أشياء الحياة كي تحيلها لوحات تشكيلية نابضة بالتعبير وبالزخم وبالجمال والقوة… وهو هنا يتماهى مع حال أخرى فريدة تمثلت في الموسيقار العبقري فان بيتهوفن، الذي أبدع أروع موسيقاه حين غادرته حاسة السمع إلى الأبد.
كان السمع والبصر ملء ناصر اليوسف، وكان هو تشكيلياً مختلفاً عن سرب التشكيليين في بلاغة الفكرة وتقنية التعبير وخامات الفن ودلالات التعبير… ولأنه كذلك فقد فرض تحديه على ظلام دامس ونازله في عقر عينه، فناوش سطوته وشاغب هيمنته واخترق سواده واستثمر لونه في إنجاز كمّ هائل من الأعمال التشكيلية التي في ظني أنها بمثابة سيرة حياة أو مذكرات حياة الفنان المرحوم ناصر اليوسف… كأنه كان يريد أن يوصل لنا نحن التشكيليين زملاءه، أن السواد السرمدي في مقلة العين هو في واقع التجربة الحية المريرة لون أخاذ طالما تهربنا من وضعه على حوامل ألواننا بحيث ان عبوته تظل غالباً متخمة به عن آخرها، ويظل هو في علبة الألوان سميناً بين عبوات عجاف عصرنا ألوانها عن آخرها في لوحاتنا… إنه الدرس الأبلغ والأهم بالنسبة إليّ في مفاهيمي المتعددة لمعاني الفنون التشكيلية في الرسم والتصوير.
لقد دأبنا نحن الذين أحببناه دوماً على مناداته بأستاذ ناصر، ليس فقط لأنه يفوقنا سناً وتجربة فن وحياة، بل لأنه يبزُنا دوماً في صوغ الأفكار والدلالات الفنية والتعبيرية… وقد علا في أستاذيته الإنسانية والتشكيلية حين استفرد السواد بناظريه فكفهما عن بقية الألوان ليستأثر بريشته المبدعة.
أراه في لوحته الآسرة الخالدة (الانتظار) حيث القط متربصاً بعصفور يقطن مرغماً قفصاً… الاثنان أسيران عند الوقت والترقب وعند اللحظة الوشيكة أو البعيدة، أو التي ستأتي أو لا تأتي… تلك اللوحة هي ناصر اليوسف ونحن معه… رسمها ربما فيما توحي به من دلالة، وفق تنبؤ مستقبلي قادم في الزمن… هل هي خيانة البصر للعين؟ أم هي الإعياء العضال حين يستبد بالجسد بعد يأسه من تفتيت صلابة النفسية المفعمة بطاقة التشكيل وعنفوانها؟… أم هي الزمن حين يقتص ممن لا يأبهون بجوره؟، أم هي العقاب المنذور لنا كوننا أدمنا الفنون والثقافة؟
ناصر اليوسف… يكفيه شرفاً ونُبلاً، ويكفينا فخراً به أنه ببصيرة بليغة دون بصر، قد ناكف هذا الزمن الموحش الأغبر، واسترسل في الصوغ التشكيلي، ربما ليقول لنا جميعاً: انتبهوا أيها المحبون… مازلت أرسم، ومازالت «الغِبِّه» تستفرد بي، ومازلت أتجرع «الشِيصْ»،
* فنان بحريني متعدد المواهب