
مثل ألوان الماء يركض الأطفال حاملين معهم ما تبقى من مخيلة، يركض الأطفال باتجاه الضوء، حيث الكراس والألوان تحتضن اليد، إنه درس الطبيعة، الدرس الذي يبدأه المعلم، النخل يسكن المخيلة والسماء تظلل طموح ولد في الرابعة عشرة من العمر، ونقوش البيوت القديمة ترسم أطرافها على عيون ذلك الولد.
وفيما كان المعلم يلمح تأمل الولد في النقوش، كانت اللحظة ترسم أول الخطوات لطريق ناصر اليوسف، الذي أسرته منذ الوهلة الأولى تفاصيل وتموجات النقش على بيوت البحرين القديمة.. يمتد عمر هذا الوصف لأكثر من 50 عاماً، حينما كان الفنان عبدالكريم العريض يتأمل هذا الولد اليافع وهو ينعزل عن زملائه، وهو يرى في التفاصيل ما لا يراه الآخرون، ناصر اليوسف بيده وعيونه كان يلاحظ النقوش الجصية وهي تعتلي بيوت البحرين، منفرداً بمخيلته وملاحظته، يتطلع لانحناءاتها.. كأنما يتطلع لانحناءات الزمن وهي ترسم تجاعيد الشيخ الواقف بيننا، وغادرنا يوم أمس.
في فريج (الحياييج) بالمحرق عام 1940 ولد ناصر اليوسف، في هذا الفريج الذي كان مفعماً بحيوية الغواصين وعرقهم وحنين أهلهم، شكل اليوسف بداية انطلاقته الفنية لقد لامس اليوسف عرق الغواصين من خلال اهتمامه بحكاياتهم، وكانت لهذه الحكايات منبعاً للروح التي يتنفس بها اليوسف، وكان القدر كفيلاً بأن يجمع هاجسه بقراءة الديوان الأول للشاعر الكويتي محمد الفايز ‘’النور من الداخل’’ لما كان يحويه من تشخيص مؤثر لملامح الغوص والغواصيين.. فبدأ يرسم ويرسم مسكوناً بديوان الفايز، فكانت الانطلاقة الأولى الخارجية له في معرض أسرة فناني البحرين في الكويت عام .1969 لكن اليوسف بعودته إلى البحرين.. لم ير إلا ما كان يراه غواص غدرت به بوصلة البحر.
(أصحابنا جيف بعد العمر شانت خوافيكم
يا خيبتي في الأمل يوم ذوى فيكم
شفنا نوايا الكذب يا عون وافيكم
لقلوب ماهي سوى والعارفين إكثار
واللي اعتمر بالوفا ما ينتوي لك ثار
إنسان لا تعتجب دوبه العطا مكثار
يوم انكوى عندكم حذر يوافيكم)
(عطش النخيل – الشاعر علي عبدالله خليفة 1970)
???
وفور عودته من الكويت كان اليوسف على موعد مهم في تأسيس شكل جديد للكتاب الشعري، إذ طلب الشاعر علي عبدالله خليفة منه معادلة الشعر باللوحة لديوان (عطش النخيل) حيث كانت هذه التجربة من التجارب الأولى لشكل جديد لكتب الشعر.
لقد شكل اليوسف منذ تلك اللحظات منعطفاً مهماً في التعاطي مع شكل اللوحة، لكنه لم يكن مستقراً لأي قالب معين، فناصر اليوسف عرف بتحولاته وتمرده على الشكل الجاهز، ففي بداية الثمانينات كان اليوسف على موعد مع الحفر، فبعد عودته من المغرب حيث كان يصحبه ابراهيم بوسعد وعبدالكريم العريض وعبدالكريم البوسطة.. وجاء اليوسف ليشكل نقطة مهمة في تحول الفن التشكيلي في البحرين.. فهذه الزيارة جاءت لتقلب معادلات مختلفة على صعيد العمل. يقول الفنان عبدالجبار الغضبان ‘’بوفاته فقدت الحركة فنانا ومعلما، حيث يعتبر من الذين واصلوا مسيرتهم بجدية وطوروا في أساليب الفن التشكيلي، فهو بالاضافة إلى كونه رساما ماهرا.. فهو أيضا حفاراً بامتياز.. معرفتي به تعود إلى زمن بعيد حيث كان حينها معلماً لي في المرحلة الثانوية.. لقد استفدت منه كثيرا.. وهو من المهمين الذين عبروا بأسلوب قوي عن الوضع الاجتماعي وهذا الأسلوب التعبيري استمر معه حتى وفاته.. خبرته تبدأ منذ الثمانينات في مجال الحفر.. فبعد عودته من أصيلة بالمغرب افتتح له مرسما خاصا بالجرافيك.. ولم يكن ذلك فقط بل كان يشجع الآخرين على ذلك حيث كان.. ناصر اليوسف لعب دوراً كبيرا في دعم الفنانين الجدد والهواة وهو من السخاء ما نعجز عن وصفها بدعمه لنا’’
???
لكن ما الذي يجمع ناصر اليوسف بخليط من الذاكرة، وخليط من المفردات الحية التي كان يراها باستمرار في حضوره وغيابه.. لقد أثر اليوسف في الكثيرين، لكن التحدي الأكبر لقلة من الفنانين عندما يذهب البصر في سواد الظلمة.. وكانت اليوسف حينها حاضراً أيضا وبكل قوة، لقد انجز وهو في ظلمته عدة معارض وكان متميزاً فيها، لقد كانت المخيلة ترى وكان النور لا يسع اللوحة.