كتب فريد رمضان:
حين فقد بصره قبل أكثر من عشر سنوات، لم تسقط الفرشاة من يد هذا الفنان الذي عاصر تاريخ الحركة التشكيلية في البحرين مع إرهاصاتها الأولى، وانفجارها الخاص مع رواد الحركة التشكيلية في البحرين الذين ساهموا في تشكيل فن تشكيلي تجاوز الممكن إلى المستحيل. وتعد تجربة الفنان ناصر اليوسف أكبر تحد للفنان التشكيلي البحريني حين دخلت تجربة مرحلة المستحيل وبدأ يرسم، ويحفر، وفي الحفر (الغرافيك) إبداع يتطلب تحد من نوع خاص، خاضه الفنان ناصر اليوسف بجرأة المبصر والمدرك تماما لتجربته وهو ما دلت عليه الأعمال التي نفذهااليوسف من خلال الحفر أو ما يعرف (باللاينوكات)، ونجح فيه بشكل لافت بل ومثير للدهشة ويستحق الدرس. نعم إن هذه التجارب الفنية التي خاض غمارها هذا الفنان تتطلب وعياً مهماً لقراءتها، وهو الفنان الذي يعد من مؤسسي الحركة التشكيلية البحرينية، ومن ثم تجربة الازدهار التشكيلي عند اليوسف، والأهم مرحلة فقد البصيرة، واشتغاله على الحفر، واعتماده على مدى تنبيه حاسة اللمس، والحفر في قيمته الإبداعية تنهض قيمة التحسيس التي تحول ملمس الأصابع إلى اللوحة في تطور إنتاجها على هذه الحاسة بدرجة عالية، ولعل معرضه التشكيلي الذي أقامه هذا الفنان العام الماضي في سبتمبر 2005 في صالة دار البارح تحت عنوان ”تجلي البصيرة” وهو المعرض الذي لم يستطع حضور افتتاحه بسبب المرض، وهو التحدى الواضح الذي يوحي به عنوان المعرض، في التجلي حيث ”علاه أو الشيء نظر إليه مشرفاً” وهو هنا يقول لنا إنه علّى البصيرة وتجلّى بها، وضع من خلال عدم البصيرة بصيرة أخرى أكثر تجلياً، وأبلغ رؤية.
في هذا المعرض قدم الفنان الراحل ناصر اليوسف رسالة تستبطن رحلته مع الفن التشكيلي، قائلا ببلاغة المبصر، إن الفنان التشكيلي لا يحتاج لعينيه ما دام قلبه ينبض بالنور، وقلبه يكتشف العالم بتحد، وهو يمسك ادوات الحفر ويتحسس اعماله عبر بلاغة متواترة، حين عرض وقتها أكثر من أربعين لوحة تعبر جميعها، بل ان اعمال اليوسف في مجملها منذ الرسم بالزيت والحفر، لم يغادر التراث البحريني الشعبي، يغوص في عمق تفاصيله وتجلياته الجميلة مثل الرقصات والألعاب الشعبية التي طواها النسيان. يرسم ويحفر في ذاكرة المكان حيث الأحياء القديمة والطرقات الضيقة، وعلاقة الإنسان البحريني بهذا المكان وتجسيده للعلاقات الاجتماعية.
هذه الأعمال التي عكف الفنان ناصر اليوسف بعد فقدانه النظر على العمل بها وتقديمها في معارض عديدة جماعية وفردية أكدت على مواهبة لا يمكن تجاوزها عند الحديث عن تاريخ الريادة التشكيلية في البحرين، وهو الأمر الذي جعل كل من يعمل في المجال التشكيلي أو يتواصل معه من التوقف أمام تجربة اليوسف سوى في انطلاقتها المبكرة مع الفنانين الآخرين، أو في التزامه المتواصل في مسك الريشة وادوات الحفر، وخلط الألوان، وفي تمازجات اللون الأبيض والأسود وتدرجاتها في نتائج الحفر، حيث كان يعتمد في تنفيذ أعماله على الورق والحفر حيث يقوم في بداية الأمر بقطع الشكل المطلوب من الورق بواسطة المقص ومن ثم يضع هذا الشكل على قطع خشبية ويبدأ حفرها للوصول للشكل المطلوب بواسطة اللمس حتى يصل إلى طباعة الشكل المحفور على الورق فتظهر في الأخير لوحة تشكيلية واضحة.
البدايات ونواة التأسيس التشكيلي في الشعر والحفر
لقد مثلت تجربة الفنان ناصر اليوسف مع مجايليه تجربة الريادة التشكيلية في البحرين رغم تأكيده أنه استفاد من تجارب بعض الفنانين من أمثال سلمان الصباغ والفنان عبدالكريم العريض التي كما يقول (كنت أقف مبهورا أمامها وأتمنى ان ارسم مثلها)، كما يؤكد هذا الفنان بتواضع سمح كيف استفاد من فنان مثل أحمد السني (لما قدمه لنا من مساعدات مكنتنا من تلمس طريقنا في الأداء الفني)، وكذلك دور الفنان عزيز زباري الذي استفاد من تجربة.
إذن من هنا، من تلاقي التجارب وتلاقحها تمثلت مجموعة الرواد النواة التي بدأت تجتمع في أيام الجمعة في احدى القرى القريبة من المنامة ليرسموا معالمها مثلما يذكر عبدالكريم العريض، ثم تحولوا إلى العناصر المحلية، بعضها كان يثير اهتمام الجالية الأوروبية فيقتنوها كنوع من التذكار السياحي، وقد تقاطرت معارض هذه الفترة في ”نادي بابكو” مثلما يؤكد عبدالكريم العريض، ذاكرة الحركة التشكيلية البحرينية، تراجعت مع الأيام اللوحة الفلكلورية التسويقية أمام اللوحة التي تستمد خصائصها الروحية من البيئة الحضرية والجغرافية بشكل عفوي، ولقد كانت تجربة الفنان ناصر اليوسف في بداياتها تعبر بشكل مباشر عن البيئة، وقد عبرت رؤيته المتواضعة في ذلك الوقت عن أنطلاق شفيف في تجسيد البيئة الشعبية بشكل انطباعي نجح في فترات لاحقة من عمره من تجريد هذه البيئة ورسمها بالحفر ببلاغة فنية نجح فيها بقدر كبير. ولقد كانت تجربته في التجريد في ديوان علي عبدالله خليفة (عطش النخيل) حين رسم الشعر بالريشة، وكانت أول تجربة يتقاطع فيها الشعر بالتشكيل.
ولقد كان الفنان ناصر اليوسف من أول من زار مهرجان أصيلة مع مجموعة من الفنانين البحرينين من أمثال الفنان عبدالكريم البوسطة والفنان إبراهيم بوسعد، ومن هناك تفتح إداركهم على فن الحفر وتعلموا فن الطباعة على الزنك والنحاس بالاضافة إلى فن (اللاينوكات)، فاضاف إلى خبراته في الرسم المائي والزيت فن جديد سوف يشكل علامة فارقة في حياته، فتحمس لهذا الفن وقام شخصيا باحضار أدوات الحفر وشكل مع أول مجموعة أول معرض للحفر. جامعا بذلك حسيات عالية التقطها من تفجير الصور الشعرية في تجربته (عطش النخيل) أو من أحساسه العالي بالموسيقى في تجسيد الرقصات الشعبية والشعور بالترتيب الصوتي والإيقاعي للموسيقى في اللوحة.
لا يمكن لنا في هذه العجالة تقديم قراءة تنصف تجربة هذا الفنان العبقري، والذي نعتقد ان تجربة مثل تجربته تحتاج لتفكيك وقراءة متأنية لزخمها الفني والإبداعي من جهة، ولارتباطها العميق بالبيئة المحلية والشعبية من فنون الغناء والرقص من جهة أخرى.