
الوقت – عباس يوسف ،جبار الغضبان:
للفنان الرائد ناصر اليوسف دوره المعروف والمشهود له في نشر الثقافة الفنية والبصرية، وفي تشجيعه للفن ودفع الفنانين واهتمامه الكبير بفن الجرافيك، وتميزه عن أبناء جيله في الاشتغال بهذا الحقل.. هذا المغاير المختلف والذي يعود الفضل إليه في انطلاقة فناني الجرافيك بالبحرين نحو المشاركات الخارجية. إن الناصر مشروع نشاط وإيمان لم يتوقف وهو في وضعه الحالي حيث أزمته الصحية (فقد فيها بصره) التي لم توقفه أو تعقه عن ممارسة خلاصه (الرسم) عبر هذه السطور.. عن اليوم والأمس وغداً قال..
؟ حدثنا عن البدايات.. عن طلعاتكم الفنية مع كريم العريض، راشد سوار، أسامة عبد الصالح، راشد العريفي وكريم البوسطة.
– كلام كثير حول هذه الفترة الجميلة أجد صعوبة في الحديث بسبب المرض فلا تؤاخذني.. كانت البدايات حلوة وجميلة وعفوية كنا مجموعة، أسامة عبد الصالح، راشد سوار – رحمه الله -، كريم العريض، كريم البوسطة وراشد العريفي كنا نتجول في القرى حتى وصلنا إلى آخر البحرين، رسمنا السواحل. كنا كل يوم جمعة نخرج للرسم، كل منا يحمل كراس تخطيطاته ونرسم، نرصد المكان ونسجل الحدث من جانب دراسي لما نرغب في تنفيذه فيما بعد. وهذه الدراسة استغرقت سنين طويلة. وعلى رغم هذا الشغل المتواصل الذي أعتقد أنه كان جاداً إلاّ أنه لم يخرج بتلك النتائج المرضية تماماً، لاسيما الفترات الأولى منه. وعلى رغم ذلك واصلنا العمل بجد وإخلاص، والصادق منّا لم يقل ذات يوم أنه قد صار ووصل. وفي الوقت الحالي بدأت تطلع في الحركة التشكيلية (طحالب)، مثل من يدعي ويزاود على كل شيء، ويتجنى على كل ما قدمناه، كل ذلك باسم الحداثة.
الخلافات كانت شخصية بحتة؟ وماذا عن تأسيس جمعية البحرين للفن المعاصر؟
ـ لقد بدأ الأمر بأسرة فناني البحرين، ثم بعد ذلك حدث الانشقاق. وقتها كنت مع أسرة فناني البحرين وكان آخر معرض أقيم في نهاية العام 1969 بدولة الكويت. وقد قدمت في هذا المعرض عشر لوحات تناولت الغوص. وكنت قد درست الغوص نحو ثلاث سنوات – أعني الحالة والحدث نفسه- فقد التقيت الغواصين والنواخذة والبحارة، وقرأت كثيراً عنهم.
أحببت الغوص وتفاعلت معه بحب، كوني نشأت في حي (غواصة) بمدينة المحرق. كما عشت في حي (الحياك) هناك كان معظم الناس غواصة، نشأت بينهم.. حضرت أعراسهم.. حضرت أفراحهم… حضرت طلعاتهم وذهابهم للغوص.. حضرت الرقصات والحزاوي، وشاهدت ملابس النساء ذات الألوان الزاهية، رحت معهم إلى السفينة نفسها. ومن هذا صار لدي مخزون كبير عن تلك الفترة، وعن الغواصين تحديداً. أما جمعية البحرين للفن المعاصر فكان بها نوع من الصراعات الداخلية، وهي صراعات شخصية بحتة.
وهل ارتقت هذه الصراعات إلى أن تكون في يوم ما فكرية أو ثقافية أو سياسية ؟
ـ لا، أبداً. كانت الخلافات شخصية بحتة. فنظرة كل واحد للآخر كانت نظرة سلبية. مثلاً حين تلتقي بعض الأشخاص إنْ أنجزت لوحة ما بصدق واجتهاد، وبدورهم لا يعدون ما أنجزت عملاً فنياً. فإزاء ما عملت بكل حب وإخلاص وتفان يقال لك، وبكل بساطة أنها تنتمي لذاك الفنان أو أنك اقتبستها من كتاب فني ما. وأقول يا ناس يا عالم أنتم تنقلون من هنا وهناك، وهذا لا يعني أن كل الناس ينقلون أعمالاً أو يعيشون على فتات الآخرين. والغريب أن الخلافات الشخصية لا تزال حاضرة في الوسط التشكيلي. ومن المفترض أنني كفنان بحاجة إلى متابعة إبداع الآخر، وليس من المفترض أن تكون هناك عداوات شخصية تحول بين المبدع ورؤية أعماله أو أنها تعيق ذهاب الآخر والالتقاء به.
محك الريادة القيمة الفنية؟ هل الخلافات إذاً كانت وراء قرارك الابتعاد عن التجمعات الفنية؟
ـ نعم لهذا السبب بالتحديد. فقد كنت رئيساً لجمعية البحرين للفن المعاصر، واعترضتني أمور لا يقدر المرء على تحملها إطلاقاً. لذلك ابتعدت. فالجمعية كانت رهن مجموعة تنتفع منها، ولم أكن مستعداً لقبول ذلك، ولم تكن لدي الرغبة في ذلك أبدا، بل كنت أكرهها ولا أقترب منها. فقد كان يراد تسيير الجمعية بطريقة تختلف عما كنت أبغي. فقد كانت لدي أفكار ورؤى، أحسست بأن شيئاً ما أقوى مني.. من مقاومتي له، نوع من الطعنات التي تقصم الظهر. فقررت بعدها ترك الجمعية لهم ولا شغل لي بذلك، كرامتي أهينت، وانسحبت. وقام كل من راشد العريفي وكريم العرّيض بإقناعي بالعودة والرجوع، فقلت أنتم مَنْ ترتكبون الأخطاء وأنا الذي أتحملها، لماذا؟ وفي ذلك الوقت كان وزير الإعلام السابق طارق المؤيد – رحمه الله – وقتها وراحوا إليه وأخبروه بذلك فسألهم أين رئيسكم ناصر اليوسف؟ أجابوه بأن ناصر اليوسف قد ترك الجمعية فسألهم لماذا؟ أجابوه أنه لم يتجاوب معنا، هذا ما قالوه حرفياً له. بعدها – الله يرحمه – أعلمني بذلك بنفسه عن هذا الكلام، قلت له تركت هذه الجمعية من شأن صون كرامتي فقط وليس لشيء ثانٍ أبداً.
ما مفهوم الريادة في الرسم.. هل المقصود أوّل من مارس الرسم من فنانين، أم أنها تحمل دلالة أعمق من ذلك، كونك أحدُ الرواد؟
ـ أتذكر هنا تلك الحفلة التي أقيمت للرواد ووزعت فيها قطعاً تذكارية صغيرة، واعتقد أنها أقيمت في العام 1980 لتكريم عشرة رواد، وقتها كتبت مقالاً أعتقد في صحيفة (القافلة) قلت فيه إنّ كلمة ريادة لا يمكن إطلاقها على العموم، لأن الريادة تعني أن هذا الإنسان بنى مدرسة فنية جديدة أو قدم شيئاً ذا قيمة فنية، وبغير هذا لا يكون هذا الشخص رائداً. وإلاّ كيف يمكننا قول رائد مثلاً، حول بعض الفنانين الذين كانت بداياتهم ضعيفة وما تزال، فلم نسميهم رواداً، كتبت هذا وشُنّ علي هجوم شرس لا سابق له.
المدارس لا تعنيني والتصنيف معوق؟ هل أحسست أن انتقالك للعمل ضمن مدارس فنية مثل الواقعية والتعبيرية والحروفية كانت عائقاً؟
ـ لقد كانت انطلاقتي منذ الصغر، ومنذ كنت في السابعة، كنت أعيش أجواء البحارة وأجواء البنائين والمزخرفين بمادة الجص، هذه الأجواء هي التي شدتني لعالم الفن، لذلك كأني بالضبط عشت ونشأت في جامعة. من ذلك أقول لقد عشت في هذه الأجواء وكل الجو ما أنتجته في تلك الأعوام له علاقة بالروح. وكل إنسان لديه شيء يمثله ويتمسك به روحياً. وبالنسبة للمدارس الفنية فهي لا تعنيني أبداً، فما أقدمه من إنجاز يمكنك تسميته أو إسناده لأية مدرسة فنية، لكن من جانبي فأنا أرسم شيئاً نابعاً من ذاتي، كل لوحة من اللوحات كانت تخرج من روحي.
؟ مهما كان الفنان صادقا مع ذاته وفنه، إلا أن اللوحة وبمجرد عرضها فهي قابلة للتصنيف، ومع ذلك يطرح البعض أن زمن المدارس الفنية ولى، ما رأيك في هذا القول ؟
ـ أتصور أنه بالفعل قد انتهي. إن الفنان الصادق ينتج من دون أن يضع أمامه نوع المدرسة أو اسمها، وبتصوري هذا الشيء خارج من الروح، ولأن التحديد أو التصنيف أمر معيق. نعم، فبعد الانتهاء من رسم اللوحة، هناك من ينسبها إلى مدرسة ما، لكن هذا ليس من اختصاصي ولا يعنيني بشيء، أنا أنهيت اتصالي باللوحة وكفى. وأعتقد أن أي فنان من المفترض أن ينظر إلى العمل الفني على أنه عمل ذاتي بحت يصدر ويتكون عن طريق معاناة معينة.. جهد معين.. فكر معين.. وقت معين، لأنه إذا أتت الفكرة فهذا لا يعني تنفيذها مباشرة وبكل حذافيرها، لابد أن أتفحصها.. أتحسس منها أيضاً.. أدقق فيها إلى أن أصل إلى قناعة تامة، بعدها أقوم بتنفيذها وهذا أمر يستلزم جهدا ويستلزم تحدياً.
؟ كيف استقبلت فن الجرافيك بتقنياته الحديثة؟ وهل سبقك أحد من الفنانين في هذا المجال ممن عاصرت في البحرين، اشتغالا بالتحديد على معدني الزنك والنحاس أو الليتوغراف؟ بعيدا تماما عن الاشتغال فرضا باللاينو الذي كان منتشرا في المدارس آنذاك؟
ـ إن مشاركتنا في مهرجان أصيلة بالمغرب العام ,1980 هي الانطلاقة الحقيقية، كان هناك مدرسون كباراً من بنجلادش، ومن السودان كان هناك محمد خليل وهو في الواقع من علّمنا وساعدنا حيث لم تكن لدينا فكرة عميقة وشاملة بفن الجرافيك. وربما كانت لدينا فكرة بسيطة عن الحفر على مادة اللاينو والخشب لكن هذه المشاركة أعطتنا كثيراً وقربتنا من فن الجرافيك. وبعد رجوعي إلى البحرين طلبت أدوات الحفر من اليابان لي وللفنان عبدالكريم العريض وإبراهيم بوسعد وكامل بركات، وبدأنا نشتغل وأقمنا أول معرض كان العام 1982 بنادي الخريجين وهو أوّل معرض يقام في هذا الفن بالبحرين. بعدها أنا واصلت الاشتغال بصورة مستمرة لغاية العام 1989 عام فقدي نعمة البصر. وقد سافرت إلى ألمانيا لتلقي العلاج، وبعد رجوعي قررت أن أكون حاضرا كما كنت. وفي أحد المعارض سمعت صديقاً يقول أن ناصر اليوسف قد انتهي، فقلت لا أبداً أنا موجود وسأواصل العمل – إن شاء الله -. وفعلا اشتغلت بالألوان المائية، ولدي أعمال كثيرة من تلك الفترة وبعدها انتقلت إلى الحفر على اللاينو منذ العام 1992 حتى هذه اللحظة.
ألا يحق للغني أن يكون فناناً؟ هل كانت هناك بالفعل حركة نقدية موازية للحركة التشكيلية؟
ـ كانت هناك كتابات شخصية. فمن كتب كان يكتب عن نفسه. وإذا ما كتب عن الآخرين فلا يكتب إلاّ القليل الذي لا يتعدى الأسطر هذا بالنسبة لراشد العريفي وعبد الكريم العريض. ولما جاء أحمد باقر من فرنسا تأملنا منه كثيراً إلا أن ذلك لم يحصل للأسف. وقد كتب ذات مرة في أحد كتبه أن ناصر اليوسف يعمل تاجراً ولا أعرف ما القصد من وراء ذلك؟ وأتساءل ألا يحق للتاجر أو الغني أن يكون فناناً ومبدعاً؟ وهل الفن مرتبط بفئة وجماعة معينة من الناس أو بغني وفقير؟ أما الحديث عن فعل نقد فني صحيح فلا صار ولم يوجد، فكيف تقوم حركة نقدية وأصحابها بعيدون عنها ؟ القصد من ذلك عدم تصدي الفنانين أنفسهم لمثل هذا الفعل.
؟ هل تشعر بفروق بين وضعك السابق واعتمادك الحالي على الذاكرة والبصيرة .
– بالطبع، الفروقات موجودة، عندما كنت بصحة وعافية كنت أرى اللون أمامي مباشرة، حتى الأفكار التي كنت أطرحها كانت ذات وضع مختلف وخصوصاً في مرحلة التنفيذ حيث كانت كل الخيارات متاحة والفضاءات مفتوحة، أما الآن فأنا أعيش فترة تحد مع النفس لأن قبل ذلك كانت الأمور سهلة وكل شيء متاح، الآن الوضع تغير وتبدل وصار صعباً.
؟ والآن كيف تنفذ عملك منذ الخطوة الأولي؟
– بداية أتصور الفكرة كما أراها واضحة أمامي، بعد ذلك أفكر في أسلوب التنفيذ والطرح ثم أستعين بأوراق وأقوم بقص كل عنصر من عناصر العمل منفرداً بكل مميزاته ثم أضعه على قطعة اللاينو بالمقاس المطلوب وأحفر حول هذا الشكل بعدها أحفر الشخصيات المرسومة إلى أن تنتهي اللوحة بعد ذلك أقوم بتوزيع الألوان عليها والحفر ثم أطبعها.
؟ من في هذه الفترة يقف معك.. يساعدك وبهذه القوة؟
– أم محمود، زوجتي هي من يقف معي، هي من يقص الورق، وهي من يجهز الألوان، أسألها بأن تخلط الألوان التي أريد، إذن تبقى أم محمود هي السند والعضيد ليس فقط في هذه الفترة العصيبة إنما في كل الفترات هي من تحملني وتحمل حقيقة كوني فناناً .. غيابي في المرسم.. سفري.. الخ.